لقد حيرت "ثقافة القطيع" علماء الاجتماع طويلا
وكانت من أولى الحوادث المفجعة التى أخذت حيزا لا بأس به من الدراسة هى حادثة مدام (جينوفيس) فى مدينة نيويورك عام 1964 ففى هذه الحادثة تم الإعتداء على مدام (جينوفيوس) وقتلها بجوار منزلها واستمرت السيدة فى الصراخ طويلا والاستغاثة بجيرانها وقد سمعها وقتها تحديدا 38 جارا ولكن كان من الغريب أنه لم يبادر أى منهم بالاتصال بالنجدة على الإطلاق أو فعل أى شىء لإنقاذ جارتهم المسكينة
وهاجت نيويورك بعد الحادثة وتحسر الناس على الشهامة الضائعة
كما تحسرنا فى مصر على حالنا فى عام 1993 عندما تم اغتصاب فتاة فى ميدان العتبة ولم يتحرك أى انسان لنجدتها
ولكن لسبب ما فإن علماء الاجتماع عندنا لم يقدموا تفسيرا لهذه الظاهرة الغريبة - ولا أعنى بذلك الاغتصاب - ولكن أعنى أن يرى الناس انسانا ضعيفا يتم اغتضابه أو قتله أو ضربه ولا يفعلون أى شىء سوى التسمر والفرجة
ولكن فى أمريكا قام علماء الاجتماع بعمل دراسات موسعة للتوصل لسبب سلوك جيران مدام (جينوفيوس) وقاموا بتجارب عدة خلصوا فيها أنه
لو كان هناك جار واحد فقط موجود فى حادثة مدام (جينوفيوس) فلريما بادر هذا الشخص بالاتصال بالشرطة أو نجدة السيدة...
ولكن وجود عدد كبير من الأشخاص يشاهدون الحادث دفعهم إلى عدم عمل أى شىء
لا يبدو الأمر منطقيا أليس كذلك؟
فشخص واحد قد يعرض حياته للخطر لو تصدى للمعتدى ولكن وجود جمع من الأشخاص من المفترض أن يجعلوهم يفكرون أنهم يستطيعون التغلب بسهولة على المعتدى لو تحركوا معا لإنقاذ الموقف
ولكن يبدو أن العقل الباطن لا يدرك قوة الجمع والإتحاد وفى المقابل يفكر بمنطق " سوف انتظر حتى يتحرك أحد غيرى"
كلهم فعلوا ذلك كل منهم انتظر أن يقوم الآخر بفعل شىء..فكانت النتيجة أنه لم يفعل أحد شيئا.
ففكر العقل الباطن أنه طالما "لم يفعل أحد غيرى من هولاء الناس شيئا فأكيد هناك أمر ما خطأ وأن ألأمر لا يستدعى أن أتحرك ورغم سماع الشخص لصراخ السيدة ألا أن عقله الباطن يرفض أن يصدق أن هناك شيئا يحدث ﻷنه لم يتحرك أحد آخر من كل الناس الآخرين لفعل شىء، فالعقل الباطن يفكر بشكل ما أن المسئولية الأخلاقية تتوزع على الجمع
يمعنى أنه لم يبادر 38 لنجدة السيدة فهذا يجعل هولاء الأشخاص لا يشعرون بالذنب الكبير الذى قد يشعر به شخص واحد موجود فى الجوار ﻷن المسئولية عندها تتوزع كل الحضور وكلما زاد العدد كلما قلت نسبة أن يتحرك أى فرد فيهم لعمل أى شىء ﻷن كل منهم ينتظر الآخر
إن هذا ما يحدث فى ثقافة القطيع
القطيع لا يفكر لا يوجد فيه مبادر لعمل شىء تحركهم معا أو سكونهم معا يشعرهم بالأمان
حتى لو كانت هذه الحركة غير منطقية وغير عاقلة ولكن لا يوجد أحد منهم يقف ويفكر ويبادر بحركة مختلفة عن حركة القطيع ﻷنها تبدو أكثر منطقية
فهل كل الناس هكذا؟
الغالبية العظمى -ليس فقط فى مصر- لا تفكر وفقط تتحرك كما يتحرك المجموع لا تنبهر إذا سافرت للخارج ووجدتهم يحترمون قوانين المرور فمعظمهم يفعل ذلك ﻷن القطيع كله يفعل ذلك
وفى بلادنا لا يحترمونها ﻷن القطيع لا يحترمها فإذا سافر أحد المصريين للخارج وجب عليه أن ينضم لثقافة قطيع آخر ويحترم الإشارات هكذا هم الناس
سلوكهم سواء إيجابى أو سلبى مرهون بثقافة الجمع
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم طبيعة هذه النفس البشرية ويحذرنا يقوله
"لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن لا تظلموا"
إن الرسول صلوات الله عليه يريد أن يربى فينا أن نأخذ زمام المبادرة أن يكون سلوكنا مبنى على ما نعتقد أنه حسن أو سيىء لا على ما يعتقده الناس ويفعلونه..."كل الناس بترمى زبالة"..."كل الناس بتغش".."كل الناس بتدفع رشاوى"...إلى آخر كل هذه العبارات التى تجعلنا نفعل أشياء لمجرد أن القطيع يفعلها حتى لو كنا فى أنفسنا مقنعين أنها حرام أو خطأ...فقد عقلنا الباطن يحركنا لنمشى مع القطيع..حتى لا نظهر بمظهر شاذ عن غيرنا ..فلنغعل كما يفعل الكل
إذن فلكى نحل مشكلة مثل احترام المرور فلابد أن تأخذ مجموعة من المبادرين على عاتقها كسر ثقافة القطيع والبدء فى ثقافة مثل (السواقة فن وأدب) على سبيل المثال..فى البداية لن يلتفت إليهم أحد وقد ينالوا السباب من الناس لأنهم يسيرون عكس المألوف ولكن بمرور الوقت سيتبعهم بعضا من القطيع وشيئا فشىء تتغيرثقافة القيادة فى مصر
وقد أوضح القرآن أن هناك ثواب خاص للسابقون الأولون الذين يأخذون زمام المبادرة فى أى شىء خير وقال تعالى :
"لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل"
فالمبادر الذى يخرج عن القطيع ثوابه عظيم ﻷنه غالبا سيجر وراءه القطيع إلى طريق الصواب
فمثلا فى حادثة "فتاة العتبة" لو كان رجل واحد هب لنجدتها لتشجع الباقى وساعدوه وهكذا فى كل شىء ربما كان من الصعب أن تكون "أول" من يفعل شىء فى محيط أصدقائك أو عائلتك أو وطنك ولكن من المؤكد أنك لن تستمر وحيدا طويلا وأن القطيع آجلا أو عاجلا سيتبعك
لذا كان من الطبيعى أن تكون صفة المبادرة أول صفة وضعها "ستيفن كوبى" من الصفات السبع الأكثر تأثيرا فى العالم ﻷن الأكثر فاعلية هو الذى لا يتصرف كما يتصرف الناس
هو الذى يعلم أنه "يعرف الرجال بالحق ولاو يعرف الحق بالرجال"
هو الشخص غير الأمعة الذى ربما يكون فى حسابات الإحصاء شخصا واحدا ولكنه "راحلة" وسط " قطيع الإبل"
إنه شخص يوزن بألف شخص
بينما ضرب المصريون الثوريون نموذجا للعالم كله في الشجاعة والتضحية من أجل الحرية والكرامة فان المواطنين المستأنسين لم يفهموا الثورة ولم يكونوا بحاجة اليها وهم في الواقع لا يستحقونها
ردحذفانهم مذعنون فاسدون كل ما يشغلهم غنائمهم الرخيصة ومصالحهم الضيقة
الصراع الآن بين الثورة ونظام استوعب الصدمة الأولى وأعاد تنظيم صفوفه وهو يشن هجوما ضاريا ليستعيد السلطة
على أن ذلك لا يجب أن يدفعنا الى التشاؤم لأن الثورة تغيير عميق ما أن يبدأ حتى يمتد حتما في النهاية الى كل جوانب المجتمع
ان الثورات قد تتعثر خطواتها لكنها لا تنهزم أبدا
الثورة سلوك انساني فريد اذا تحقق لابد أن يستمر
الثورة معناها أن يفضل الانسان في لحظة ما مبادئه على مصالحه
أن يكسر حاجز الخوف ويتقبل الموت من أجل الحرية
الثورة ميلاد جديد للشعب يتطهر فيه من أدرانه وأخطائه جميعا ليبدأ حياة نظيفة عادلة وحرة
ان الروح التى تبعثها الثورة في الأمة لا تموت أبدا مهما كثرت المؤامرات وتعددت المذابح
الثورة مستمرة باذن الله حتى تنتصر وتحقق أهدافها